رسائل متبادلة بين صديقين
من صادق النيهوم إلى رشاد الهوني
عزيزي رشاد
لعلها المرة الأولى التي أكتب فيها لك منذ غادرت الوطن . ولعلها ـ أيضا ـ المرة الأولى التي أكتب فيها لإنسان في بلدي الذي أحن إليه ، وأتعطش إلى رؤياه ، ولكن تمنعني من العودة إليه أمور كثيرة . إنني هنا في مدينة فرانكفورت ، في ضجيج شوارعها وهدير آلاتها ومصانعها ، ووحشية موسيقاها وصخبها .
أحس شوقا عارما يهز كياني ، وحنينا جارفا إلى لمحة خاطفة لمدخل مدينتنا الصغيرة . رغم أكواخها ، طرقها المهدمة ، ومستنقعاتها الكثيرة الموزعة حولها ، أشتاق إلى ناموسة ، من سبخة الصابري تلدغ وجهي ، وأحن إلى سهرات الدردشة التي لا نمل خلالها من الحديث الفارغ ، وأشتاق ، أشتاق إلى رائحة الملل التي تعبق في بنغازي .
ورغم كل ما حولي هذه اللحظة ، فإنني يا صديقي أحس بفراغ هائل ، وأحس بوحدة لا يقدر على اقتحامها ضجيج الدنيا وهديرها ، لأنني غريب .. ولأن الذين حولي لا يرتبطون بي ذلك الارتباط الغبي الذي نتعصب له .
ولكن ، هل أنكر سعادتي بهذه الغربة ؟ كلا .. إنني في الواقع سعيد بغربتي ؛ لأنها أقل تأثيرا في نفسي من غربتي في بلدي . و ما أسوأ أن يحس الإنسان بالغربة في بلده . أنت تعلم متى افترقنا .. لقد تركتك في بنغازي تحترف الجلوس على كراسي المقاهي ، وتقطع المسافة ما بين بنغازي والبركة على قدميك لأنك لا تملك قرشا يوصلك إلى هدفك . وتدور دورة واسعة حول المدينة هربا من الشوارع الملغمة؛ التي يوجد بها دائنون ، في تلك الفترة يا صديقي ، كان الإنسان في بنغازي يلتقي بوجه صديقه مئات المرات كل يوم . وكان يكفي أن يكتب على الرسالة المرسلة إليك اسمك فقط لتصلك ، وكان من الممكن العثور عليك حين أسأل عابر عن مكانك. ولكننا رغم كل هذا ؛ كنا نصرخ ، ون من أعماقنا ، ونفرش نفوسنا حرة في الشارع ، المقهى والمنتدى . ولم يحس أي منا ـ في يوم من الأيام ـ حاجة إلى المال ، أو ضرورته ؛ فقد كان طموحنا عظيما رائعا ، ولكن المادة لم تكن كل الهدف ، بل كانت علاقتنا روحية خالصة ، فلم يعنفنا دائن في أي وقت ، ولم يمتنع أي إنسان عن المساعدة حين كنا نطلب المساعدة .
كنا بكلمات قليلة ؛ مجتمع أخوة وأحباء ، وصداقة متينة وكانت لنا حريتنا ، أمننا وتعاطفنا . كنا مجتمع رجل واحد رغم التفاهات الصغيرة التي كانت تحدث بيننا .لقد أصبح هذا ذكريات قديمة جدا .
فبعد أن تركتك وخرجت إلى العالم الآخر ، تصورت أنني تخلصت من عمر قديم ، لأستقبل عمرا جديدا لامعا . عرفت الأصدقاء الجدد والصديقات اللآتي لم أعرفهن طيلة عمري الذي مضى ، وتعلمت الرقص، وحصلت على عدة دبلومات ، ثم حصلت على الماجستير . وبعد سنوات طويلة من الشبع ؛ هزمني شوقي إلى بلدي ، إلى شوارعها الخالية ، والأصدقاء الذين تقابلهم في اليوم مئة مرة ..
ولقد حدث وعدت. ورغم أننا لم نلتق خلال زيارتي ، رغم هذا فقد كنت هناك ، حيث لم أجد شيئا مما تركت ، وحيث صدمتني دلائل القرف التي ارتسمت على ملامح الناس .
أين الأصدقاء ؟ ، أين مجتمع الرجل الواحد ؟ ، أين أنت يا صديقي بصراخك الذي لم يكن يكف ، بالنوادر التي كنا نقوم بها، أين مقهي شتوان ؟ ، سنما الهلال ، مطعم الفيكتوريا ، والامبريالي ، أين كل هذا ؟ ألم تكن المدينة تجتمع في هذه الأماكن ؟ ، ألم نكن نتبادل الود ، المحبة ، التعاطف ، الأخوة ، التلاحم ، الترابط ، الفرحة ، المواساة ، الشكوى ، والصراخ . ألم نكن مجموعة رائعة تستحق القبل ؟ ، ألم نكن مجتمعا عظيما رائدا ؟ . إذن .. أين كل هذا . أأصبح مجرد ذكريات قديمة ! ، لقد أصاب الناس الذهول ، وعبروا السنوات الماضية بقفزات شيطان أعمى .
صديقي رشاد
لم تعد بنغازي هي تلك الحبيبة التي ترضعنا الحنان . وتمدنا بالقوة وتجد فيها عدلك وأمنك ، وطمأنينتك . ولهذا فلقد شعرت فيها بالغربة . شعرت أنني إنسان متطفل لا مكان لي . كان الأصدقاء يلوحون لي على الطريقة الأمريكية وهم ينهبون الشوارع بسياراتهم اللامعة ، وكأنني لم أفترق عنهم كل هذه السنوات . لم يهتم بي الذين أرسلوني للدراسة في الخارج . ولم يسأل أي إنسان عن تحصيلي ، وعن فترة العلم المضنية التي قضيتها بعيدا عن الوطن ، وكأنني مجرد حبة رمل في صحرائنا العظيمة الغامضة .
وكما صدمت بالعالم الآخرحين تركت بنغازي ، صدمت ـ أيضا ـ ببنغازي حين عدت من العالم الآخر .
كتب عليّ أن أنشطر نصفين حزينين يائسين ، غريبين ، وأصبح من الواضح أن أختار ؛ فأنا نكرة في بلدي ، كما في المدينة الصاخبة فرانكفورت ، وأنا غريب في ليبيا كما غريب في هذه الدولة الكبيرة ألمانيا . وأنا في بنغازي أعيش في مجتمع مادي ، غريب الطباع ، قاسي الملامح ، فاقد الأصول ، ولكنني في ألمانيا لا أرتبط بأي مجتمع .. وهنا وطأة من الغربة النفسية وأنت بين أهلك وأصدقائك .
هل أنا مخطئ ؟ ، أتشعرون بالراحة ؟ ، ألا تحسون بالذهول ، الدواخ ، ألا تتذوقون المرارة التي امتلأ بها فمي ؟ . إنني الآن أعد للدكتوراه ، وجامعتي تتمسك بي ، ولقد تزوجت فتاة من الشمال ، وولدي يفتح عينيه بصعوبة ليكتشف الحياة من حوله ، ولازلت أدق أذنيه بلهجتنا الليبية لربما عاد إلى بلده ـ يوما ما ـ فتكون لغته وسيلة لأن يعيش بين أهله في مجتمع آخر ينعم بما يفتقده الناس الآن .
تحياتي لك .. وحبي للجميع .
صادق النيهوم ـ فرانكفورت ـ 7 ـ 8 ـ 1965 م
* * *
.. ومن رشاد الهوني إلى صادق النيهوم
عزيزي صادق
كم مضى من الوقت ؟
إنني لازلت أذرع المدينة جيئة وذهاب ؛ محاولا في إلحاح أن أطرد كثيرا من الخفافيش ، والطيور الليلية التي تعشش في صدري ، إن نفسي كمقبرة قديمة مهجورة ، وصدري يشبه إلى حد بعيد مغارة سحيقة ، مهترئة ترددت فيها وشوشات عميقة الزمن . وأنت هناك .
في هلسنكي ؛ تضع أمامك كأس بيرة ، وتحدق في عيني زوجتك الخضراوين ، وتهش على رأس طفلك الذي يحبو ، ثم تأخذ ورقة وقلما وتطلب بكل بساطة أن أكتب لك ! .
ماذا أكتب ، وماذا لي أن أحكي ؟ كل شيء ممل للغاية ، الحكاية مكررة ؛ تقززت منها آذان السامعين ، وأنت رغم ذلك تبحث عن كلمة خشنة أو رائحة قديمة أجمعها وأدسها لك في خطاب أصفر . أنا أعرف حاجتك إلى هذا ، وأنت غارق في نهار ممطر ، رمادي البشرة ، وعلى مرمى البصر تنتشر مساحات واسعة من الورد الأصفر الفاقع .
أنا أعرف حاجتك إلى قصصنا الساذجة ، وأعرف شوقك الذي لا ينضب ، وأعرف كل هذا ولكنني لا أملك أن أطفئ جمرة واحدة صغيرة في سؤالك الحارق . فأنا مطحون مثلك ، أنا ممزق .. وفي حاجة إلى من يضم أطرافي بعضها إلى بعض الآخر ، وكل الذي يخفف الحدة هو وجودي هنا ، وجودي في ساحة المعركة ، وليس شرفة بعيدة .
كم من الوقت مضى ؟ .
سؤالنا الخالد ، وكأن الوقت هو المأساة ، وهو العذاب الذي نذوب فيه ، وطوال الوقت ـ يا عزيزي صادق ـ كنت أذرع المدينة الصغيرة طولا وعرضا تماما كبغل الساقية .
وامتلأت نفسي بآلاف التشنجات ، حين حدث هذا .. رأيت أن أعتزل الشارع ، وأن أدور أيضا كبغل الساقية ، ولكن في مكان واحد .. محدد ، ومحصور. رأيت أن لا داعي مطلقا للبعثرة و لا داعي لكثير من الغضب ، رأيت أن أتهاوى ، أن أسقط عند قدمي القدر ، وأن أفرغ كل شحنات القلق في زجاجة يشربها إخوتي ؛ إخوتي وإخوتك الذين فقدوا لعابهم ، ويبست شفاههم ، وتصلبت شرايينهم ، تجرحت حناجرهم وتخذلت قبضاتهم .
ليس من طريق آخر أجده أمامي سوى هذا الطريق ؛ هو الوسيلة الوحيدة التي يضيع بعدها سؤالنا .
كم مضى من الوقت ؟ .
أنت تعلم أنني أكره المخاض ، أكره لحظات المرض ، أمقت لحظة القلق والانتظار . أنت تعلم أني أريد أن أقفز أي سور يعترضني ، وأختصر المسافة بين الحافة والحافة في لحظة خاطفة حتى لو سقطت – بعد ذلك – في البئر .
يا صديقي صادق
لكن .. هناك أشياء تكشفت لي ، أشياء جديدة كنت أستهين بها رغم أنني حذرت منها مرات .. ومرات ؛ أشياء جديدة ، تبعث في قلبي الرعب وتثير فيه آلاف المخاوف ، وملايين الرعشات.
مثل صبي يتعلم المشي أخضع لكثير من الخرافات التي كنا ن منها سويا ؛ حين تصرع كثيرا من الصحاب .
هواؤنا يا صديقي ملوث بلطعات الدود وإفرازات الحشرات الصغيرة ، وقد كان مقدرا لي أن أهرب سنوات كثيرة ولكنني في النهاية سقطت . ووجدت أصابعي تنغرز في بطن الأرض وتتشبث بالقشات أحيانا .
ووجدتني فجأة ـ أتحول إلى كتلة من الإلحاح أمام آلاف المواقف المحزنة الصغيرة . وحين أخلو بنفسي يتفصد قلبي يالعرق نتيجة لرحلته المجهدة في الطريق المعاكس . والمؤسف أنني ـ بعد هذا كله ـ أتصور بكل بلاهة ، أنني قادر على الإفلات من مشاعري المتناقضة وقادر على التوجه مباشرة إلى نقطة معلومة . غير أن الهدف يضيع والخلجات ترتعش ، الضمأ يطوي كل مسافات الغضب وأحس بأنني قد فشلت كما لم يفشل إنسان من قبل .
كم من الوقت مضى ؟
وهل تراني استطعت أن أنقل إليك ما يجب أن تعرفه خلال هذه الدقائق ؟ ، وهل تتنبأ لي بحاستك المخلصة إن كنت سأعبر فخاخ هذا المجتمع أم أنني سأسقط في الطريق ؟ ، هل يقدر لي مرة أخرى أن أحمل أشيائي في قبضتي أم أنها ستنزلق من بين كفي كالزئبق ؟ ، أف . أف لكل هذه التساؤلات ، أنا أريد فقط أن أسبح في بحيرتي .. وإن كنت أتضايق كثيرا من الأعشاب الخضراء اللزجة المترامية على الضفتين ، إلا أن الموضع لا يستدعي القلق ، لا يتطلب موقفا واحدا للتفكير ، ولهذا .. لا تنتظر كثيرا وحاول معي ولو على البعد ، أن تقدم شيئا لهذا الجيل الذي يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ! ، شيئا من المرارة نذيبه له في الملعقة ؛ حتى لا يفقد الطعم الذي امتلأت به أفواهنا وحتى لا ينمو صغارنا بنفوس مائعة ! .
ليس هناك بعد هذا ما يمكن قوله ، سوى أنني من جانب آخر بدأت أسترد شيئا فقدته طول عمري وعثرت عليه بعد طول عناء ومعاندة ، وربما .. ربما يبتسم الطريق ، تتفتح النوافذ المغلقة في وجوهنا وتعود أنت إلينا ؛ إلى الشمس المشرقة ، ودفء القلوب ومدينتنا الصغيرة الحبيبة التي لم تخذل أحد حتى الآن .
رشاد الهوني ـ بنغازي ـ 19 ـ 3 ـ 1966م
الثلاثاء مايو 27, 2014 6:09 am من طرف ناصرعبدالسلام
» ** هل اجد مكانا بينكم **
الثلاثاء مايو 21, 2013 6:14 pm من طرف ALMASA
» صور قديمة لسوسه
الإثنين يناير 07, 2013 8:37 am من طرف بوجواد
» لغتنا العربية هويتنا
الخميس أغسطس 30, 2012 7:48 am من طرف عزيزه
» الشاعر والبير
الإثنين مايو 28, 2012 4:13 pm من طرف المهاجر
» علاج الثوار
السبت أكتوبر 01, 2011 12:20 pm من طرف بتول الساحل
» انتقل الي رحمة الله المرحوم محمد المهدي يوم السبت 23/7/2011
الإثنين يوليو 25, 2011 3:38 am من طرف زهرة الجبل
» تحية لمن يصنعون الحياة
الخميس أبريل 14, 2011 3:09 pm من طرف BENSAUOD
» موسوعه كامله عن زيت الزيتون وفوائده وخصائصه
الخميس أبريل 14, 2011 3:06 pm من طرف BENSAUOD
» القأ تحيه
الخميس أبريل 14, 2011 3:04 pm من طرف BENSAUOD
» عوض السعداوية
الخميس أبريل 14, 2011 2:59 pm من طرف BENSAUOD
» اخبار نادى المنار
الأربعاء يناير 05, 2011 7:29 pm من طرف ولد سوسه
» شكرا ياطارق الوسيع
الأربعاء يناير 05, 2011 7:23 pm من طرف ولد سوسه
» الوعيــــــــــــــــــرى ايريد ترحيب
الأربعاء يناير 05, 2011 7:20 pm من طرف ولد سوسه
» قصيدة (( من وحى سوسه))
الأربعاء يناير 05, 2011 7:18 pm من طرف ولد سوسه
» اخطار اشعاعات الهاتف النقال علي صحة الانسان
الأربعاء يناير 05, 2011 7:15 pm من طرف ولد سوسه
» بعض المعلومات الجغرافية
الأربعاء يناير 05, 2011 7:06 pm من طرف ولد سوسه
» فبــــــــــــــكــــــم نستفيد ؟؟
الأربعاء يناير 05, 2011 6:57 pm من طرف ولد سوسه
» عدم قيام الأعضاء بالرد على بعضهم في المواضيع
الأربعاء يناير 05, 2011 6:52 pm من طرف ولد سوسه
» شواطئ سوسه
الأربعاء يناير 05, 2011 6:46 pm من طرف ولد سوسه
» هذا ما سيحدث لنا عند موتنا...صور معبرة
الأربعاء يناير 05, 2011 6:43 pm من طرف ولد سوسه
» هذه العباره لمن تهديها
الأربعاء يناير 05, 2011 6:36 pm من طرف ولد سوسه
» انا افتقده هل افتقدموه
الأربعاء يناير 05, 2011 6:24 pm من طرف ولد سوسه
» محمد اكريم فى ذمة الله
الأربعاء يناير 05, 2011 5:40 pm من طرف ولد سوسه
» أسئلة ... وجاوبوا بأغنية علم
الخميس ديسمبر 09, 2010 10:52 am من طرف بوعبدالنبى